" هذه قصة من قصص التاريخ, أثبتت وحفظت ونقلت لمن كان له قلب, أو ألقى السمع وهو شهيد.
فهل من عاقل؟ وهل من فطن أن السعادة ليست في الدور ولا في القصور, ولا في الحدائق.
خرج علي ابن المأمون الخليفة العباسي فأشرف من شرفة القصر ذات يوم ينظر إلى سوق بغداد. ينظر من البروج العاجية.. فطعامه شهي.. ومركبه وطئ.. وعيشه هنئ. يلبس ما جمل ويأكل ما طاب, وما جاع يوما في حياته, وما ظمئ أبدا, وما مست الشمس جبهته. فأخذ ينظر إلى الناس في السوق,
فلفت نظر الأمير رجل من الناس يعمل حمالا يحمل للناس بالأجرة, وكان يظهر عليه الصلاح والنسك. فكانت حباله على كتفيه, والحمل على ظهره, ينقل الحمولة من دكان إلى دكان, ومن مكان إلى مكان, فأخذ يتابع حركاته في السوق, فكان هذا الحمال إذا انتصف الضحى, ترك السوق, وخرج إلى ضفاف دجلة فتوضأ, وصلى ركعتين, ورفع يديه إلى الحي القيوم. فكان إذا صلى الضحى, عاد فعمل إلى قبيل الظهر, ثم اشترى خبزة بدرهم, فيأخذها إلى نهر دجلة فيبلها في الماء, ويشرب من الماء ويأكل. فإذا انتهى توظأ للظهر, وصلى ثم دعا وابتهل وبكى, ونادى الحي القيوم. ثم نام ساعة وبعد النوم يستيقظ, فينزل إلى السوق, فيعمل, ويجتهد ثم يشتري خبزا ويذهب إلى بيته. وفي اليوم الثاني: يعود إلى هذا البرنامج والجدول الذي لا يتغير, وهكذا اليوم الثالث والرابع إلى أيام كثيرة.
فأرسل الأمير جنديا من جنوده إلى ذاك الحمال ليستدعيه ليكلمه في القصر. فذهب الجندي واستدعى الحمال, فقال في نفسه: مالي ومال جنود بني العباس.. مالي ومال الخلفاء.
قالوا: أمر الأمير أن تحضر عنده اليوم.
فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه.
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فدخل هذا الفقير على ابن المأمون الأمير فسلم عليه.
فقال له الأمير: ألا تعرفني؟
قال: ما رأيتك حتى أعرفك.
قال: أنا ابن الخليفة.
قال: يقولون ذلك.
قال: ماذا تعمل أنت؟
قال: اعمل مع عباد الله في بلاد الله.
قال: قد رأيتك أياما ورأيت المشقة التي أصابتك, فأريد أن أخفف عنك المشقة.
قال: بماذا؟
قال: اسكن معي القصر بأهلك, آكلا, شاربا, مستريحا, لا هم ولا غم, ولا حزن.
فقال: يا ابن الخليفة لا هم على من لم يذنب, ولا غم على من لم يعص, ولا حزن على من لم يسئ. أما من أمسى في غضب الله, وأصبح في معاصي الله, فهو مصاحب للغم, والحزن, والهم.
فسأله عن أهله, فقال: أمي عجوز كبيرة, وأختي عمياء حسيرة, آتي بإفطارهما قبل الغروب, وهما تصومان كل يوم فنفطر جميعا ثم ننام.
قال: فمتى تستيقظ؟
قال: إذا نزل الحي القيوم إلى السماء الدنيا.
قال: هل عليك من دين؟
قال: ذنوب سلفت بيني وبين الحي القيوم.
قال: ألا تريد معيشتنا؟
قال: لا والله.
قال: ولم؟
قال: أخاف أن يقسو قلبي ويضيع ديني.
قال: أتفضل أن تكون حمالا في السوق, جائعا في الشمس, والعري, والهم, والغم, والكلفة, ولا تكون معي في قصر الإمارة؟
قال: إي والله.
فنزل وتركه, فأخذ الأمير يتأمله وينظر وهو مشدوه بعد أن ألقى عليه محاضرات من الإيمان, وطرق قلبه بدروس من التوحيد.
وفي ليلة من الليالي صحا الأمير من نومه, وعلم أنه كان في سبات عميق, وفي نوم طويل, وأن داعي الله يدعوه ليتنبه.فاستيقظ الأمير وسط الليل, وقال لحاشيته: أنا ذاهب لمكان, فإذا أتى بعد ثلاثة أيام أخبروا أبي الخليفة المأمون أني ذهيت وسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر.
قالوا: ولم؟
قال: نظرت إلى نفسي فإذا أنا في غيبوبة وفي سبات وفي ضياع وضلال, فأنا ألايد أن أهاجر بروحي إلى الله.
فخرج وسط الليل, وقد خلع لباسه ولبس لباس الفقر, ومشى في الطرقات, واختفى عن العيون.
ولم يعلم الخليفة ولا أهل البلاد أين ذهب الأمير. وعهد الخدم به يوم ترك القصر أنه ركب إلى واسط كما يقول أهل التاريخ, وقد غير هيئته وأصبح كهيئة المساكين, وعمل مع تاجر التجار في صنع الآجر.
فكان له أوراد, في الصباح يحفظ القرآن, ويصوم الإثنين والخميس, ويقوم الليل, ويتصل بالحي القيوم, وما عنده من المال ما يكفيه يوما واحدا. فذهب غمه وهمه, وذهب حزنه, وذهب العجب, والكبر, والخيلاء من قلبه.
ولما أتته الوفاة أعطى هذا التاجر خاتمه وقال: أنا ابن الخليفة المأمون فإذا مت فغسلني وكفني واقبرني ثم سلم هذا الخاتم لأبي. فغسله, وكفنه, وصلى عليه, ودفنه وأتى بالخاتم إلى المأمون. وكان قد ظن أن ابنه قتل في مكان أو فقد أو ذهب على وجهه في مكان لا يدري عنه. فلما رأى الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته, فسأل التجر عنه. فقال له الخبر. فارتفع صوت الأمير الخليفة والوزراء بالبكاء, وعرفوا أنه عرف الطريق لكنهم ما مشوا معه في الطريق.
تنبــهــوا يا رقـــــود إلى متى ذا الجمود
فهـــذه الــدار تبلى ومـــا عليــها يبـيـــد
الخيــر فيها قليـــل والشـر فـيـها عديــد
والعمر ينقص فيها والسـيـئـــات تـزيـــد
فاستكثر الزاد فيها إن الطــريـق بعــيــد
من كتاب سياط القلوب للكاتب عائض بن عبد الله القرني